26 أغسطس 2013

قبر على ضفاف الدرب

"مشاركتي قصة قصيرة بتاريخ 29/08/2009 بمنتدى الساخر الأدبي تحت إسم: ربما حنين "

ليس ككل الشوارع التي تغيب عنها الشمس لأيام ،حينما يمتد إليها سكون الملل و يتسلل صقيع البرد إلى جدرانها فتبدو حزينة ، درب اليهود كما عهدوا على تسميته لتجمع ما تبقى من اليهود به، لا تهتم أرصفته إن غابت الشمس عنها و إحتجبت في فصل الشتاء ، كانت كل زاوية فيه تبعث الدفئ والهدوء بأرواح أهل القرية بالرغم من أنهم يتجنبون المرور بمحاذاته لكثرة ما يقال عن البيوت التي تتخلل المحال التجارية الكثيرة الممتدة على طول أرصفته.

بيوت رمادية على الطراز الفرنسي ،تطل على الدرب بأشجار البرتقال و الليمون تمنح المارين لحظات ليتمتعوا بعطر أزهارها مجانا أيام المطر، حين تغتسل أوراقها المتدلية فتمسح بلمعتها كل ملامح الشك و الريبة التي ينظر بها الآخرون إليها و تنتصب راقصة على أنغام المطر متباهية بلونها الجديد.

الكل يخشى العبور من هناك إلا أن الوصول لسوق السبت ،يشق على الكثيرين لبعده عن وسط المدينة و لإختصار الطريق لا بد من المشي في درب اليهود ،فتزداد الحركة رواحا ومجيئا صباح يوم السبت و يعج المكان بحديث النساء اللاتي يتسابقن في خطواتهن مسرعات و هن يتهامسن عن عبيدة، كل واحدة منهن تحجز لها رواية تسردها عن أوصافها و جمالها بكره و حقد شديدين فهي التي أغوت كل الرجال وسلبتهن السعادة ، كانت بالنسبة إليهن المسؤولة عن ما كسر وشوه من ثقة و طمأنينة في أنفسهن و عن كل طلاقا ،وموتا و مرضا، و كل شيئ و لاشيء ،أما عبيدة كلما وصلتها أحاديثهن و نكاتهن الحجرية إستقبلتها بالكثير من الثقة و بإبتسامة مكتومة ،و إذا جاء المساء و إنتصف الليل تطفأ الأنوار و تتعالى الضحكات و الخطوات و تنبعث روائح الخمر تشق العتمة فتنام القرية كلها و يصحو درب اليهود يسقبل ليل آخر بين أسواره، لتولد به بدايات و تموت نهايات أخرى.

عبيدة التي يتراكض إليها رجال القرية خلسة ، هجرها زوجها في شهرها الأول و هي لا تزال عروس ،متسللا إلى إحدى الجزر الإسبانية عبر البحر بقارب يحمل أكثر من عشرون آخرين، ليحقق ثروة و يتزوج من أوربية تنسيه سنوات الفقر و الجوع التي قضاها في قرية يعيش أهلها حياتهم كلها متطلعين لما وراء البحر
"تزوجتك مرغما ...الحاج يظن أني إن تزوجت سأنسى أوربا....لن أبقى" .
مرت سنة و إثنتين و ثلاث و لم يعد أمام أهله سوى مواجهة النهاية المحتومة فكل الذين يبحرون على قوارب الموت يموتون غرقا،وعبيدة منذ ثلاث سنوات لا تغير جلستها قبالة البحر تحدق في الأفق تترقب بصبر ممزوجا باليأس ،والأمواج لا تأتي به أبدا .

أخبروها أن تعود لأهلها فلم يعد لها سببا في البقاء ،حينها نبتت في قلبها ألف صرخة و خيم الصمت بإسترخاء على ملامح وجهها متحسرة بمرارة لحالها،أحست أنهم ينتظرون رحيلها أكثر من رجوع المهاجر.

إنسحبت من البيت و هم يرشقونها بنظرات تكاد تقتلها ، مضت مقوسة ظهرها محتضنة حقيبتها لا تعلم وجهتها،لازال صوت زوجة أبيها يصرخ داخلها تأمرها بخدمة البيوت ولازالت كلماتها تشعل صدرها...
لن أعود إليها ...لن أعود.. مستحيل الموت أرحم من عذابها ...

ظلت عبيدة لساعات تجوب الشوارع كالمجنونة وعينيها تتقافز هنا و هناك تبحث عن مأوى...في هذه اللحظات بزغ درب اليهود بين عينيها فاتحا ذراعيه،أطلقت سراح خطواتها متجهة نحو بيت لالة سيمان ،تذكرتها و هي تضرب صدرها بقوة : كلكم أيها الحمقى العرب تنتهون عندي في الليل و في النهار.... 
...هي حتما بحاجة لخادمة جديدة و أنا بحاجة لقبر يأويني.



ليست هناك تعليقات: